الخميس، 2 مارس 2017

العقل البشري في القران

الحمد لله رب العالمين والصلاة على خاتم النبيين والسلام على الأنبياء جميعهم والمرسلين المُكرمين وبعد:

منذ أن كنا نتلقى العلم صغارا على مقاعد المدرسة وحتى مدرجات الجامعة على اختلاف تخصصاتها ونحن نتلقى مختلف العلوم المنسوبة إلى نتائج الأبحاث العلمية البشرية التي بشر بها العلماء على اختلاف تخصصاتهم وجنسياتهم, في مجالات فلكية وكيمائية وفيزياء, طب , تشريح, رصد,تجارب,..الخ , علومنا الأكاديمية وضعها مؤلفي المناهج الدراسية , مستقاة من عديد المراجع المنسوبة إلى علماء أفنوا حياتهم في البحث والتجريب ووضع الفرائض والانتهاء بالبراهين, وتكدست هذه العلوم في عقولنا وكبرت معنا حتى تأصلت حتى بات مجرد الشك في فرضية علمية متأصلة في عقولنا مثار للجدل والاختلاف والأخذ والرد,رغم أن المتفق عليه أن العلوم البشرية قابلة للتغير والتطوير وحتى الشطب مع كل نهضة جديدة لوسائل البحث والتجريب العلمي, ومن العلوم ما تم  شطبه نهائيا ومنها ما جرى تعديلها, وفي كل الأحوال أنه من المؤكد أن العلوم البشرية لا يمكن أن تكون من الثوابت .أمام هذه الحقائق كان لابد للبشرية من وقفة تدبر لمرجعية العلم الأصل ومصدر العلوم الغير قابل للشك أو القابل للتغيير , تلك المرجعية هي الكائنة عند رب الناس خالق الأرض والسماء والإنسان والحيوان العليم بأحوالها وأسرارها, باطنها وظاهرها , خالق الكون وما فيه والأعلم بكل صغيرة وكبيرة في خلقه ونظام وجوده ماضيه وحاضره ومستقبلة...الخ.أمام هذه الثوابت يرى العاقل أن استقاء علمه الأساس لا يكون مبنيا على حقائق إن لم تعتمد المرجعية الأصل, قال خالق الكون وما فيه سبحانه"اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [الأعراف : 3] في النص القرآني توجيه رباني صريح للناس لاعتماد المرجعية العلمية الأصل والنهي عن إتباع ما دونه من مدعي العلم , وهذا لا يعني بالتأكيد الدعوة إلى عدم التفكر والتعلم والتجربة , بل بالعكس فقد دعا القرآن الكريم مرارا وتكرارا إلى ذلك, فخاطب الناس كافة مرارا بالتعميم ومرارا بالتخصيص, حيث قسمه القرآن الناس إلى أقوام متخصصة فكان منهم حسب ما صنف ما يلي:العقل في اللغة العربية : وتفيد المعاجم اللغوية بأن العقل يؤدي الإدراك والفهم والتدبر والمعرفة الخطأ، واللغة تسبغ على العقل سمة إدراك الأشياء وتحدد وظيفته في الوعي بما يثبت الحقيقة، مع تضمين التأني في القيام بعمله، وهو التدبر والتفكر، أي عملية التعقل التي تتوجب أحياناً الصبر، والعقل ملكته الفطرية يؤدي وظيفته لكونه مجبولاً على العلم بضروريات اكتساب المعرفة، وهي المعرفة الأولية والمنطقات الأولى التي بدونها يستحيل أن ينتظم العقل وفق معرفة ما.1. هل أنت علي يقين من أن السكر ذو طعم " حلو " ؟2. هل أنت علي يقين من ان الملح ذو طعم " مالح " ؟3. هل العقل يصير الحواس أم ان الحواس تصير العقل؟4. هل تستطيع الحواس أن تخدع العقل ؟5. هل " الشك " هو الطريق الذي نتبعه لأدراك " الإدراك " ؟6. هل يجب علينا أن نشك في كل شئ حتى نُدرك إن    الإسلام يرفع من شأن العقل ويأمر باستخدامه في قضايا الحياة الصغرى منها والكبرى وجعل الذين يحكمون عقولهم ويستنفدون طاقات تفكيرهم في كشف حقائق الحياة وتدبر أسرارها وحدهم أهلا لأن يوجه إليهم الخطاب وأما أولئك الذين أوقفوا حركة العقل وأوصدوا في وجهه باب المعرفة فليس لهم من شرف الإنسانية حظ ولا من كرامة البشر نصيب وإذا استعرضنا ما جاء في القرآن الكريم وحده في معرض الثناء على العقل أو في سياق الحث على إعماله والنهي عن إهماله وجدنا أنه قد ذكر في القرآن الكريم وحده ما يقرب من سبعين مرة, فالشريعة لم تتبين إلا بالعقل والعقل لن يهتدي إلا بالشريعة والحقائق العلمية إما أن تكون فكرية محضة وإما أن تكون مستندة إلى الحواس.
أولا: الفكرية المحضة:- كثير من الحقائق لا يتوقف إثباتها على الحواس بل يكفي في إثباتها الفكر وحده دون حاجة إلى تأييدها بمشاهدة أو تجربة, ومن هذه الحقائق ما يسمى (بالبديهيات) وهي القضايا التي إذا عرضت على العقل السليم كان مجرد عرضها كافيا في إثباتها والتسليم بمقتضياتها فهي في غنى عن أن يبرهن عليها مثل الواحد نصف الاثنين, و الضد أن لا يجتمعان والأثر لا بد له من مؤثر وما شابه ذلك.هذه الحقائق البديهية هي الأساس في إثبات القضايا العقلية المحضة ولولا هذه الحقائق البديهية الفطرية المودعة في كل نفس لما استطاع الإنسان الوصول إلى حقيقة عقلية, إذ لا بد للإنسان في طريق وصوله إلى حقيقة عقلية من أن يستند إلى هذه البديهيات وأن يجعلها العماد الذي يرتكز عليه في حياته العقلية.ثانيا- الفكرية المستندة إلى الحواس أو التجربة: هناك نوع من القضايا العلمية اليقينية ما يكون الفكر فيها وسيلة فقط وهو مفتقر في إثباتها إلى أن يستند إلى الحس أو التجربة, مثل المعادن تتمدد بالحرارة, والماء مركب من الأوكسجين والهيدروجين, والحديد جسم صلب والحرير ناعم, وما شابه ذلك وهذه الحقائق وإن كانت لها مكانة معتبرة في الاستدلال لكنها لا تبلغ من حيث التقويم منزلة القسم الأول في الاستدلال ذلك لأن الإدراك الحسي قد يعتريه الخطأ كمن هو مصاب بمرض عمى الألوان فقد يحكم على اللون الأحمر بأنه أصفر أو بالعكس ومن أسباب الخطأ الضلال ويكون بسبب التفسير الخاطئ الناجم عن الحالة النفسية للشخص فالخائف ينظر إلى ظل شجرة فيحسبها شخصا يتربص به, أو يرى ثوبا معلقا فيتوهمه شبحا ينقض عليه, والتجربة إنما تبرهن عن نفسها في الماضي والحاضر فقط أما في المستقبل فلا تستطيع أن تثبت نفسها فيه, لأن التجربة مبنية على أن شيئا ما قد تكرر على شكل معين, ومن تكراره فقط نشأت علميته, والتكرار إنما كان في الماضي ويمكن التأكد منه في الحال أما في المستقبل حال كونه مستقبلا فلا يمكن التكرار فيه لأنه لم يأت, وإذا جاء وأمكن التكرار فيه أصبح ماضيا, ومن الممكن أن تنحل القضايا التجريبية في يوم من الأيام بتجارب أخرى جديدة, ولكن ليس في الإمكان أن ينحل دليل عقلي منطقي. قال ستيوارت ميل الفيلسوف الإنكليزي وهو من أكبر علماء المذهب التجريبي: إنه وإن كانت بعض التجارب غير منحلة وغير منتقضة فليست كل تجربة ممكنة الانحلال والانتقاض. على أن ذلك لا يكون طاعنا في الدليل المستند إلى الحسن والتجربة بل ليتبين عند التقويم ما للقضايا الأخرى, ثم إننا من جهة أخرى نجد أن العقل وحده هو الذي يفسر التجربة والمحسوس ويستخرج منهما المعنى الذهني, وهما ليسا بشيء بدون العقل فالإحساس بدونه أمي والتجربة بدونه خرساء.1. العقل و العقلاء في القرآن : ذكر القرآن الكريم العقل والعقلاء (خمسون) مرة في رحابه بما فيه بعض أجزاء العقل كالناصية ومما جاء في ذلك, وقد أخضع القرآن آياته المدركة لتصديق العقل لها فاختتم بعض الآيات الكريمة بقوله " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ " مشترطا " بأن" مشيرا " بذلك" مؤكدا بلام التأكيد, مكررا التأكيد بها خاتما بقوله"لقوم يعقلون" وقد جرى النظم القرآني دوما على استباق هذا النص ببيان وتفصيل الآية المشار إليها" بذلك", كقوله "وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ" ثم يقول" إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل : 12] وعليه يحدد النص في السياق المعلومة المطلوب تدبرها من قبل العقل البشري ككلمة "سَخَّرَ",وكلمة سخر تكون هي المحور التي يدور حولها العلم القرآني المبشر (لقوم يعقلون), من هنا تكون الدعوة القرآنية للعقل للنشاط عملا لتحليل المعلومة المعطاة كونه العضو البشري المسئول عن عمليات تحليل المعلومات أو (تدبرها) بالمعنى القرآني,وعليه لا يتطلب منه سوى طرح السؤال الافتراضي و بالأسلوب العلمي الفطري ( كيف تم التسخير ولماذا كان؟ )
هذا ما أراده العلم القرآني من إشراك للعقل البشري بعدما وضع المعلومة قيد التدبر فقال" َسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ.." ثم طالب العقل بالتدبر أو تحليل المعلومة على ضخامتها, ولم يشأ القرآن أن يكون محاضرا ملقنا للمعلومات,أو كتابا علميا متخصصا بل احترم العقل البشري, فوفر له مادة التحليل والتدبر وطالبه بالنشاط لوضع الفرضيات وإجراء المقارنات والقياسات ,والبحث والتجريب وكل ما يكون للإنسان العاقل من الوسائل المساعدة للوصول إلى البرهان وفهم الكيفية والسببية .قول القرآن " لقوم يعقلون" اختلف كثيرا عن قوله لقوم يعلمون أو يتفكرون أو يبصرون وغيرها, فتلك قضايا حدد وخصص فيها الفئة المدعوة لتدبرها,للتأكيد على أن الموضوع مختص بالعقل دون القلب أو البصر وغيرها, على اعتبار أن القضية تختص بتحليل معلومة كيفية حركة الشمس والقمر وعلاقتها بالليل والنهار علاقة فهم لا تحتاج إلى معامل مخبريه أو تجارب تشريحية ولا تحتاج لأكثر من تعقل وتحليل يمكن أن يتطلب تحليلا رياضيا كحساب الزمن الناتج عن تنقل الأوقات الناتج عن حركة الضوء الشمسي الساقط على الأرض.القرآن لم يبخل بالبيان والتفصيل في المعلومات فتجده يبين ويفصل ويكرر في المعلومة الواحدة ,فيقول مثلا :" فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام : 96] " لننظر إلى نص الآية حيث تتمركز كلمات محورية للتدبر هي( فالق) مصطلح يوجب التوقف لفهم معناه , ففلق الضوء من الظلام والعكس هذه قضية علمية عقلية عظيمة تتطلب عقلاء عظماء لفهمها والوقوف على كنهها,وليست مجرد كلمة زائدة أو هي مجرد اسم مستعرض أو صفة من صفات الله تعالى(فالق الإصباح) بل هي معلومة كاملة عظيمة تحدى بها القرآن البشرية جمعاء عقلاءها وعلماءها , وقد عزز القرآن هذه المعلومة بأخرى فقال" إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى.." [الأنعام : 95] " ذلك ليساعد العقل المدعو على مزيد من التدبر لئلا يبتعد في التحليل حين يخوض في فهم ( الفلق) المتعلق بفلق الضياء اللامحسوس فمنحة فلق آخر محسوس وهو البذر والنوى , هكذا يعلم القرآن الناس بمزيد من البيان والتفصيل دوما وهو الشاهد على ذاته بذلك القائل فيه "تَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ " .المرتكز الثاني في الآية كان في كلمة "جعل" وفيها دعوة أخرى للتحليل على اعتبار المشار إليه من المعلومات في النص – مجعولة- أي قابلة للإنهاء أو التغيير والتبديل , فتذكر العاقل المتدبر بأن في هذه المعلومات ثمة متغيرات ,كطول وقصر المدة الزمنية لليل والنهار واختلاف بعد الأرض والقمر عن الشمس , وعلى العاقل المتدبر أن يتنبه لهذه الظواهر فلا تغيب عن تحليلاته, وقبل أن يغوص العاقل المتدبر في شأنه أو ينكر أو يشك تكثف الآية من معطيات العلم فتقول" حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ " تضيف مرتكزين علميين آخرين, مفادهما أن المشار إلية محسوب( رياضيا) ثم تقدير أي دقيق الحساب , وفي موضع آخر قال" وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ " .ذلك مجرد مثال فقط وضعته بين يدي القارئ على دعوة القرآن لفئة العقلاء من الناس مع آية واحدة من أصل خمسون مخاطبة قرآنية .وسنعود بعون الله للبيان في قضية الفلق والنور كقضايا كذب العلم البشري بشأنها وصحح القرآن للناس مصطلحات العلم الخاطئة حين أنكر عليه أكذوبة مسمى(الضوء) فقال للناس ليس هناك شيء يمكن أن يسمى ضوءا ,بل ما ترونه هو (ضياء) ولم يأت المصطلح العلمي في القرآن على ذكر كلمة (ضوء) ولا لمرة واحدة في حين كرر كلمة (ضياء) في متونه الكريمة ثلاث مرات , ثم فصل كثيرا في بيان الفرق بين الضياء والنور وهي قضية لازالت ملتبسة على العلوم البشرية, سنتعرض لهذه القضية أيضا في مكانها بعون الله. وقبل أن نغادر ساحة العقل والعقلاء سنتوقف قليلا في هذه المحطة لنضع العقل تحت المجهر القرآني لنتعرف على ماهيته مقارنة بالتعريف البشري له .

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق